الشعب السعودي في غالبيته المطلقة بل والساحقة، شعب مسلم متدين "معتدل") كلمة جميلة استهل بها الكاتب الصحفي قينان الغامدي مقاله تحت عنوان: إلى أمير عسير: لن يرضيهما إلا هدم "المفتاحة" والذي نشرته في جريدة الوطن أمس العدد 3201 تاريخ 12 رجب 1430هـ .
شهادة تستحق التأريخ ! لأنها جزء من دراسات استطلاع الرأي حول طبيعة المجتمع السعودي وحسم الخلاف الذي يجري حول حقيقة أغلبيته هل هم الليبراليون أم المتدينون أهل الملة والاستقامة على منهج الله!
وليس عن هذه الشهادة الاستهلالية نتكلم في هذا المقال وإنما الموضوع ما بعدها !!وماذا يريد قينان الغامدي منها!
فقد احتوى مقاله المعنون أعلاه! على أفكار مثيرة للغاية وتحليل يحتاج منا فعلا إلى تحليل كما احتوى على مغالطات محشوة بمنهجه القديم في قالب جديد !! بقلم يتحرى –كالعادة الزيادة والنفخ في الأخبار كما تنفخ الوزغ في نار الفتنة !!
مقاله جاء كرسالة لسمو الأمير فيصل بن خالد بن عبد العزيز أمير منطقة عسير رئيس مجلس التنمية السياحية!انتقده بسبب إلغائه للحفلات الغنائية التي تصاحب عادة مهرجانات أبها السياحية كما انتقده على إلغاء فيلم سينمائي كان من المفترض أن يكون من بين الفعاليات في مسرح المفتاحة!!! أما لغة النقد فلم تكن مجرد لغة متباكية على الحال!! بل لغة تصنيفية للمجتمع ، متعسفة في ذلك التصنيف! مشبعة بالمغالطات ، تحريضية يشوبها التخبط ..والمثير فيها أيضا أنها تمثل مع أسلوبها القيناني الوقح، مراجعة فكرية جديدة! وفوق هذا كله كانت لغة منهجية تؤصل للفكر القيناني أكثر من كونها مجرد نقد عابر, فبرغم أن موضع المقال هو انتقاد الأمير في إلغائه للحفلات الغنائية إلا أن 77.71% من المقال كان ترسيخا مفهوم الاعتدال القيناني وربطه بتعسف وبحق وباطل بما أسماه في المقال : ( المنهج السعودي المعتدل").
وإليك التفصيل:
فبعد أن وصف المجتمع السعودي بالاعتدال -وهو محق في ذلك -ذكر أن فيه فئتان شاذتان واضحتان ومعروفتان الآن) ..
( -فئة غلت في الدين وتشددت وتطرفت، واعتسفت نصوصه وحللت وحرمت كما تشاء، جهلاً بالدين أو بدوافع وأهداف سياسية سلطوية تتلبس بالدين، وكان أنموذج "طالبان" أوضح صور ما تتوق هذه الفئة إلى تعميمه سياسة ومنهج حياة، -وفئة – وهي الأقل والأضعف دائماً – تجاهلت الدين أو نسيته، وتطلعت إلى مناهج إلحادية شرقية أو غربية وتاقت إليها ودعت، وزينت،)
ولا يمكن قراءة موقف قينان هذا من قضية إلغاء الحفلات الغنائية بمعزل عن طبيعة فكره العام وتحولاته و(مراجعاته الأخيرة) وأصوله في تناول القضايا والنقد! فمفاهيم كالتطرف والتغريب والاعتدال التي جاءت سندا لمقاله بل أغلب مادته هي اصطلاحات تمثل اتجاها يتبناه الرجل ويمكن قراءته من خلال كتاباته وتصريحاته اليومية.
ولعل القارىء يلاحظ وهو يقرأ مقال قينان خلوه من أي كلمة تشير إلى العلمانية أو الليبرالية !!!برغم إجماع المفكرين والعلماء والراسخين في علم السياسة أن الاتجاه العلماني ومعه الليبرالي يمثل تهديدا حقيقيا للأسس التي قامت عليها المملكة وتوجهها وسياستها!! فالليبراليون لا يخفون أن أهم مطلب لديهم هو فك الارتباط التاريخي بين الديني والسياسي الذي قامت عليه الدولة!! وهذه لا يجهلها رجل صحفي مثل قينان ..لكن السؤال لماذا تجاهلها؟؟! ولماذا جعل التهديد لمنهج الاعتدال (السعودي) منحصرا في فئتين اثنتين هما :
(التغربيون بشرط أن يكونوا ملاحدة) وكذلك المتطرفون (الطالبانيون)!!!؟!
والجواب هو ما أكده قينان قبل أيام فقط إذ قال في مقال له بتاريخ: الأحد 21 جمادى الآخرة 1430 ـ 14 يونيو العدد3180 ـ / بعنوان : سقطت "الشعارات" وبقي "الاعتدال": الهدف من استهداف "السعودية" .
( لقد قلت، واليوم أكرر إن مشروع القومية دفن، ومشروع الإسلاموية يتهاوى، فماذا بقي؟ بقي مشروع الاعتدال العربي، وهو مشروع ليس جديداً فهو كان موجوداً من قبل أن يولد أي مشروع من المشروعين السابقين" القومية والإسلاموية"، ولكن لسبب أو لآخر اهتم هذا المشروع المعتدل "دينياً وسياسياً" بالفعل والعمل على أرض الواقع، وأهمل بوضوح "الإعلام"، فالميكرفون بكل أبعاده وآلياته ووسائله كان أقوى سلاح استخدمه الشعاراتيون من القوميين أولاً ثم الإسلامويين ثانياً، بينما بقي مشروع الاعتدال العربي الذي تقوده وتتبناه "المملكة العربية السعودية" منذ توحيدها على يد الملك عبدالعزيز وحتى يومنا هذا، بقي هذا المشروع في الظل مؤثراً الصمت ومتمسكاً بالحكمة والهدوء )
ففي هذا المقال يصنف قينان الغامدي أعداء الاعتدال في دائرتين هما دائرة القومية العربية و دائرة التيار الإسلامي أو كما يقول هو بمصطلح هجين: (إسلاماوية)!
هذا التصنيف ليس له إلا معنى واحد وهو أن التيار الليبرالي أو (الاتجاه التغريبي عموما) الموجود في المملكة لا وجود له أصلا إذ لا يوجد إلا القومي والإسلامي وقد هلكا !!والمعتدل وهو الباقي!!!! أو أنه موجود وداخل بالضرورة في التيار المعتدل!! وبما أنه موجود حقيقة ولا يستطيع قينان الغامدي إنكاره فهذا يعني أن التيار الليبرالي هو مكون من مكونات مشروع الاعتدال في المملكة في نظر قينان بالإلزام .وإذا عرفنا أن تاريخ كتابة هذا المقال حديث جدا من أيام قليلة فقط (في جمادى الآخرة من هذا العام ) وأن قينان قبل سنوات في سجاله مع د.البريك قد أكد على أسبقية التيار الليبرالي في المملكة وسعة انتشاره فسيؤكد لنا هذا كله أن مشروع الاعتدال الذي يقصده هو نفسه المشروع الليبرالي في جوهره .
فلسفة قينانية مثيرة!! تستحق التأمل والدراسة ..إذ إن من المعلوم من الفكر بالضرورة أن الليبرالية مذهب غربي لا يتعارض في أقل أحواله مع حرية الإلحاد ولن يكون قينان ليبراليا ما لم يؤمن بحرية الردة عن الإسلام مثلا !!! وللقارىء الكريم أن يكتب كلمة الليبرالية أو liberalism وسيقف على 27 مليون صفحة تشرح له حقيقة هذا المذهب من مصادره الموثوقة بالإنجليزية والعربية ما يعني أن هناك 27 مليون شاهد يكذبون قينان في فهمه!!.
وهناك ملاحظة لطيفة على طريقة قينان في تصنيف الفئتين فقد اعتمد فيها على طريقة بوش الصغير: "من ليس معنا فهو ضدنا" أي من ليس معنا فهو مع طالبان والإرهاب"! لأن طالبان هي ضده!
وقينان يقول المقولة نفسها من ليس معنا فهو مع طالبان .
أما انتقاده لقرار الأمير وتعليله فقد كان غاية في التعسف و(الجهالة) قال قينان: (وليت الأمير يوضح سبب الإلغاء منعاً لسوء الفهم، لأن المبررات المعلنة غير مقنعة، ومازال بيننا وبين رمضان خمسون يوماً)
وكل المتابعين يدركون أن المهرجان ينطلق منتصف الشهر إلى غاية 22/8/1430 هـ أي أن نهايته ستكون قبل شهر رمضان بثمانية أو سبعة أيام !! فلماذا يحاول قينان جعل ما بين رمضان والمهرجان فارق 50 يوما وليس أسبوع واحد!!!!!
هذا من جهة ومن جهة أخرى فسمو الأمير لم يذكر في بيانه أن السبب هو فقط قرب رمضان بل قال ما نصه الحفلات الغنائية ليست الجاذب الرئيسي و أنا من أوقفها لعدة أمور أولها أننا نستقبل شهر صوم وعبادة ويجب ألا يكون استقبالنا له بذلك ).
ولا أحد يختلف مع قينان أو غيره في وجود تطرف في المجتمع السعودي كما في كل مجتمع لكنه في ماء بلغ القلتين!! بشهادة قينان نفسه! ولكن الخلاف هو في إسقاط التطرف على ما ليس منه!! والشذوذ على الحق الظاهر البائن ! فالعلماء الكبار والمفكرون والمجتمع برمته دعم قرار الأمير فإن كان هناك شذوذ فإنما هو شذوذ قيناني في المسألة!!
فقرار إلغاء الحفلات الغنائية قرار تتسع له صلاحية الأمير في إطار مراعاة المصلحة العامة وما عليه واقع الحال تماما كما اعتمد وزير الإعلام مثلا تغييرات في السياسة الإعلامية العملية مؤكدا على ضرور مراعاة خصوصية المجتمع السعودي وهو توجه تؤكده روح السياسة السعودية وقياداتها وفي مناصحات الأمير خالد بن طلال لأخيه الوليد مثال واضح فيما يخص التأكيد على الهوية الإسلامية للمملكة وخصوصياتها .
